فترة المرور بهذه الحياة محدودة ، قد تطول أو تقصر ، غير أن سرعة زوالها تتواكب تماماً مع سرعة تسابق خطى الأيام التي لا يستشعرها أحد ، والنهاية القبر ، والموعد البعث ، والمحاسب الله ، فتُرى . . أي الناس أشد حسرةً ؟ ذاك الذي مرت به خطى الأيام على سرعتها ممزوجة ببعض معاناة شظف العيش مع السلامة في أمر الدين ثم سعد بلقاء ربه ، وكان في الجنان برحمة الله من المخلدين ، أم هذا الذي توفرت له بعض أسباب السعادة الظاهرية الممزوجة بكدر العيش الذي يلازم متع الدنيا لا محالة ، ثم سرعان ما انتهت به حياته ، ليستقبل حساباً يطول آلاف السنين ، ثم يهوي بتفريطه في نار غضب رب العالمين ؟!
من البديهي أن حسرة المتمتع قليلاً ثم المعاني كثيراً ، ستكون أضعافاً مضاعفةً من حسرة المعاني قليلاً ، ثم المتمتع بألوان النعيم أبد الخالدين .
ولكن . . تبقى النفس بما فيها من استعجال المتاع ، وحب الخير ، وتأثرها بالمظاهر الخداعة ، والغفلة عن العواقب رهينةً لسلوك درب الخاسرين ؛ وذلك لقلة صبرها ، وخوفها من غيب مستقبلها المجهول ، ويقينها بأن البشر صاروا أشبه ما يكونوا بالوحوش المفترسة التي لا ترحم ، ناهيك عن وساوس الشيطان ، وما ينخر به في عصب العزائم ليوهنها ؛ فترضخ تحت مطية تلك المخاوف ، وتنساق لضعفها في ركب الغافلين .
والنجاة . . تتمثل في سبيل واحد لا ثاني له ، هو إغمار القلب بالله ، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني الإيواء إلى هذا الركن الشديد ، والثقة فيما عنده سبحانه ، والتوكل عليه ، والرضى بقضائه ، وتفويض كل الشأن له إذ الأمر كله بيده ، لا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ، فهو سبحانه منبع الأمان والاطمئنان والسكينة والعدل والإنصاف والخير والإحسان ، فمن غمر قلبه بالله ؛ لم يعبأ بتغير الأحوال من حوله ، ولم يجزع لنوائب الدهر التي تزلل قلوب الكثير من حوله ، ولم يحزن لفوات حظٍ مأمولٍ من الدنيا ؛ لأنه قد جعل الآخرة كل حظه ، وأضحى هذا التسابق السريع لمرور أيام حياته ، يعزف على أوتار قلبه ألحان الحنين إلى هذا اللقاء الذي تهفو إليه نفسه ممنياً له بقرب النجاة ، هامساً في أذنه ألا تحزن فإن الموعد الله ؛ فتزداد روحه شوقاً إلى شوقها ، ولهفةً إلى لهفتها وتقفز على خطى الأيام غير عابئةٍ بما يدور في دنياها ، متعدية كل همومها وعقباها ، متجاوزةً ضيق عيشها وشقواها ، فأني لهذه الدنيا على حقارتها أن تحتل جزءً ولو يسيراً من هذا القلب الذي غمرته جذوة الإيمان !!
وأنى لهمومها على وضاعتها أن تشغل جزءً ولو بسيطاً من هذا النبع الذي يفيض بنور الإيمان !!
فهذه المعاني التي لامست بصدقٍ شغاف قلبه ، قد جعلت الدنيا بحذافيرها في عينه موضع الاستصغار ، وفي قلبه موضع الاحتقار ، وصار تمتعه بها تمتع المضطر الذي لا يرغب في المزيد منها ، وإنما يلجأ إليها فقط ليتبلغ بها إلى رضوان ربه ، فإذا ما لاحت له لحظة اللقاء ، كان أسعد المفارقين لها ، وأهنأ المسافرين إلى غيرها ، بعدما نفض عن نفسه غبار وسخها ، واستقبل الله طاهراً من أدرانها ، لينعم برحمة الله في روضات الجنان . .
فعلام بعد ذلك تكون الحسرة ؟